الموقع التخصصي للمسجد، يكتسب مركز المخطوطات أهميته الكبيرة من عمله في ترميم الآثار الإسلامية من مخطوطات ووثائق، ورّثها العلماء والأجداد للأجيال جيلًا بعد جيل؛ بهدف الحفاظ على إسلامية وقدسية القدس.
وتعود فكرة ترميم المخطوطات إلى أواخر السبعينيات، إذ نوقشت فكرته داخل دائرة الأوقاف الإسلامية في القدس المحتلة، وبدأت عمليًّا تخرج للنور عام 1999م.
وافتتح المركز مقره عام 2008م، نتيجة حجز الاحتلال لجميع معداته ومواده وأدواته في ميناء "أسدود"، ليجد المرمّمون بعد افتتاحه أقدم إشارة على وجود ترميم المسجد الأقصى للمخطوطات في وقفية منذ العهد العثماني للسلطان سليمان القانوني يأمر بها ترميم مصحف يعود للعهد المملوكي وكان عمره حينها 200 عام.
والمركز العامل بمعايير علمية دولية، هو الأول من نوعه في فلسطين والعالم العربي من حيث التجهيز والكفاءة، ويعمل فيه 10 مقدسيين من شباب وفتيات، يحتفظون بـ 4 آلاف مخطوطة ووثيقة إسلامية.
ويقع بمنتصف الرواق الغربي لـلأقصى، وبمنتصف بابي المطهرة والسلسلة في المدرسة الأشرفية، وهي الوحيدة التي بنيت في ساحات المسجد ثم تحولت إلى مكتبة، ثم مركزاً لترميم المخطوطات، وتبعد 30 مترًا عن قبة الصخرة المشرفة.
وأوضح مدير المركز رضوان عمرو، أن المبنى بمدخله الوحيد من داخل الأقصى ينقسم إلى جزأين متّصلين، الأول قاعة كبيرة في الرواق الغربي داخل الأقصى كانت تعرف بـ"مصلى الحنابلة" ومساحتها 150متر، والجزء الثاني 3 حجرات يقعن خارج الأقصى، عرفن سابقاً بـ "المدرسة البلدية" وضمت إلى المركز لاحقاً، لتصبح مساحته 300 متر.
وذكر عمرو لصحيفة "فلسطين" أن المركز واكب منذ بدء تأسيسه معيقات عدة، منها وجود الاحتلال الذي لا يروق له وجود مركز يعنى بالتراث والمخطوطات والتراث العربي الإسلامي في القدس وبالذات في المسجد الأقصى.
وأشار إلى أن الاحتلال احتجز باخرة معدات للمركز لـ3 سنوات، وفرض عليها مبالغ مالية باهظة وصلت إلى 100 ألف دينار أردني؛ عدا عن منعه من ترميم مقر المركز (المدرسة الأشرفية)، التي أنجز ترميمها عام 2003م.
وقال: إن الاحتلال ما زال يعيق ويضيق صيانة مبنى المركز من التصدّعات في نوافذه وبواباته ورطوبته العالية، الذي يبلغ عمره 750 عاما.
التدريب والتطوير
وواجه أعضاء المركز في بداية إنشائه، قلة الخبرة وغياب التخصص المناسب لترميم المواد الورقية، فابتعث المركز موظفين لإيطاليا وفرنسا بهدف التدريب، والاستعانة بمنظمة "يونسكو" ومشاريع دولية ذات علاقة، حتى اجتازوا تلك العقبة، وأصبح تدريب الطاقم يتم في داخل مركز ترميم المخطوطات ضمن مشاريع مرتبطة بخبراء دوليين، يعيق الاحتلال في معظم الأوقات وصولهم للقدس المحتلة.
وأوضح عمرو أن المركز يعاني من منع الاحتلال إدخال مواد الترميم كما في باقي مراكز إعمار الأقصى، قائلا: "جميع مواد الترميم يتم تعطيلها على الأبواب، وتحتجز الطلبيات في الميناء، ومداهمة الشرطة لمواقع مختلفة في الأقصى وضرب الموظفين".
وفي تاريخ الـ 17 يوليو/ تموز عام 2017م، تعرض المركز والمسجد الأقصى إلى أخطر وأكبر عدوان، فاقتحمت قوات الاحتلال وعناصر المخابرات مقر المركز، وحطموا أبوابه وممتلكاته، وعبثوا بمحتوياته وحواسيبه ومخطوطاته الأثرية.
وأتلف جنود الاحتلال خلال اقتحامهم المواد الكيميائية التي تعالج بها المخطوطات، ومنعوا إدخال مواد جديدة.
وأضاف عمرو: "باعتداءات الاحتلال المتكررة على المركز وموظفيه وحراسه، نستطيع فهم حجم الغيظ الذي يسببه اعتناؤنا بالتراث الإسلامي لدى الاحتلال".
أعمال وإنجازات
ويتفرع المركز إلى أربع وحدات وظيفية، الأولى هي الفهرسة والتصوير والمعالجة الإلكترونية، والثانية وحدة المعالجة البيولوجية، وفيها يعالج المخطوط من أشكال التلف الناجمة عن عوامل بيولوجية كالحشرات والبكتيريا والجراثيم وبيوض الحشرات.
والوحدة الثالثة هي المعالجة الكيميائية وتختص بمعالجة العوامل الكيميائية المتلفة للمخطوط مثل الغازات والأحماض والأكاسيد المختلفة، وأما الوحدة الرابعة فهي المعالجة اليدوية وهدفها ترميم المخطوطات بشكل يدوي وتدعيم الأوراق وخياطتها وتجليدها.
وتمر المخطوطات عبر الوحدات الأربعة في 15 مرحلة ترميم – أقل أو أكثر حسب نوع المخطوطة- وتستغرق هذه المراحل أسبوعًا واحدًا في الترميم، للمخطوط الواحد أو سنة.
ومراحل الترميم هي التعقيم، تعبئة بطاقتي الفهرسة والترميم، التصوير قبل الترميم، فحص الحموضة، فحص ذوبان الحبر، تفقد التعقيبة، ترقيم الصفحات، تفكيك الملازم، التنظيف الميكانيكي، تثبيت الأحبار، إزالة ورق التدعيم والترميم القديم، التنظيف الكيميائي، إعادة التصميغ، التدعيم بألياف الفالينا، ترميم الورق، الكبس والتسوية، ترميم الألوان، جمع الملازم من جديد، حفظ الخياطة القديمة، ترميم الخياطة، التجليد، حفظ الغلاف القديم، ترميم الغلاف، صندوق الحفظ، ثم التصوير خلال وبعد الترميم.
ونجح الموظفون في المركز بترميم عدد من المخطوطات التي يصل عددها إلى 4 آلاف مخطوطة ووثيقة أثرية، محصورة في مكتبة المسجد الأقصى، ومن أهمها، والكلام لمدير المركز: ترميم مجموعة مهمة من المخطوطات والسجلات والخرائط واللوحات.
وذكر عمرو أن المركز نجح في ترميم مصحف العالم ربعت ازميري، المكتوب في ازمير بتركيا وأهدي للمسجد الأقصى في العهد العثماني، لافتا إلى أن عملية ترميمه استغرقت أكثر من 6 أشهر، وهي 30 جزءا للقرآن الكريم مذهبة وجميلة ومنمقة بالذهب، بشكل مميز.
ولفت إلى إنجاز ترميم مخطوط "سرّ العالمين وكشف ما في الدّارين"، المنسوب لحجة الإسلام الإمام أبي حامد الغزالي.
وبحسب عمرو فاستغرق العمل على ترميمه عدّة أشهر، وهو نسخة من مخطوط "سرّ العالمين وكشف ما في الدّارين"، ويعود تاريخ نسخها على يد أحمد بن محمد بن شيخ الحسيني القاسمي الشافعي إلى عام 1068 هجرية (قبل 371 عاماً)، وهو مكوّن من 118 صفحة، ويحمل رقم التصنيف العام (0243) في مكتبة المسجد الاقصى.
وأضاف: "رممنا مجموعة من المصاحف العثمانية والمملوكية الجميلة جدا، ومئات الوثائق والسجلات من مختلف الفترات الزمنية من المحكمة الشرعية".
كما رمّم المركز أقدم خريطة من العهد العثماني للحرم المكي، وهي أول خريطة يتم ترميمها بأيدٍ فلسطينية وبمهارات عالية، وهي خريطة حدود الدولة العثمانية وشبكة النقل والمواصلات ومقاسها بمساحة 6متر عام 2014م.
وذكر أن هناك مجموعة من الوثائق الوقفية تعود لعهد المفتي أمين الحسيني، التي تعود للمجلس الإسلامي الأعلى، تؤرخ أحداثًا إدارية ووقفية كثيرة حصلت في هذه المناطق، إضافة إلى وجود جزء كبير آخر في مركز إحياء التراث في أبو ديس التابع للسلطة الفلسطينية.
وثائق ذو قيمة
وأكد أن هذه الوثائق تؤكد بما لا يدع مجالًا للشك وجود كثير من الأملاك والأوقاف في غربي القدس ومناطق مختلفة من أرجاء القدس التي تتعرض للتهويد، وتثبت ملكيتها للمسلمين حتى في حي الشرف الإسلامي وبلدة سلوان.
وشدد عمرو على أهمية هذه الوثائق ودراستها والعناية بها في تأصيل حقوقنا وأرضنا وعقاراتنا وبيوتنا في مدينة القدس، مستدركا: "أحيانا وثيقة واحدة من السجل في المحكمة الشرعية قد تثبت أن مكان ما مملوك للمسلمين وأنه وقف وبالتالي كل ورقة لها أهمية في هذا الصراع وفي إثبات الملكية ونسب العائلات والحقوق والإدارة الإسلامية لها".
وطالب عمرو السلطة الفلسطينية بممارسة دورها الحقيقي في نصرة المسجد وحمايته ودعم موظفيه، محذرا من استمرار تضييق الاحتلال على المقدسيين وعلى دور منظمة "يونسكو" ومنع بعثاتها من الوصول للقدس والتضييق على خبرائها بسبب مواقفها الأخيرة بحق الأقصى المبارك.
وشدد عمرو على أنهم سيبقون رغم كل الظروف رأس الحربة في الدفاع عن "تراثنا ومخطوطاتنا وعن حاضرنا ومستقبلنا وماضينا أيضا"، مضيفاً "فالمخطوطات هي ميراث العلماء والعلماء ورثة الأنبياء، ونحن ورثنا هذه المخطوطات عن علمائنا وأنبيائنا بما تحمله من علوم ومعارف".